نشرت مجلة ( الأمة The Nation) الامريكية في عددها الصادر في نهاية تموز 2007 اعترفات لخمسين من الجنود الامريكيين أعطوا اسماءهم الحقيقية ورتبهم العسكرية، بارتكابهم جرائم حرب في العراق تنطبق عليهم أشد عقوبات أحكام القانون الدولي، لا تحتاج ملاحقة هؤلاء وقادتهم ورئيسهم بوش قانونيا الى توثيق أكثر من تلك الاعترافات التي أدلوا بها هم أنفسهم بحرية، وبمباهاة واستهتار في كثير من الحالات، والتي نشرتها احدى أشهر المجلات الامريكية، من هذا المنطلق، هذه الاعترافات بارتكاب جرائم فظيعة هي الأساس القانوني الكفيل بإدانة ادارة بوش في المحاكم الدولية.
لقد عرضت المجلة اعترافات بعض جنود الاحتلال الامريكي في العراق بشأن تفاصيل الطرق الوحشية المتبعة التي يتبعونها في اقتحام منازل المواطنين الأبرياء غالباً، واعترف أحد الجنود بمشاركته في آلاف الغارات لتفتيش منازل مواطنين في تكريت وسامراء والموصل قائلاً عن اقتحامها وبث الرعب في نفوس سكانها، ومعظمهم أطفال: «كنا نقوم بإرهابهم أثناء غاراتنا، والتي غالباً ما تكون بعد منتصف الليل وقبل الفجر- اعتدنا ان نهجم على الزوجين في فراشهما ونسحب الزوج أمام زوجته ونضع رأسه الى الجدار تحت تهديد السلاح، ونأتي ببقية أفراد العائلة في صورة مهينة، ثم نبدأ بسؤال صاحب المنزل تحت تهديد السلاح عما إذا كان في منزله أسلحة أو منشورات ضدنا، فإذا كانت الاجابة بـلا، دمرنا مفروشات المنزل وأفرغنا كل ما في الثلاجة وخزائن الملابس التي نمزقها إرباً أمام أعينهم، وإذا لم نجد شيئاً- كما هو واقع الحال غالباً- نقول لهم: نأسف لإزعاجكم مساء ممتعاً!.
وقد وصف جندي إحدى الغارات التي شارك فيها قائلاً: انه هجم في ليلة صيف على منزل مواطن بعدما أمر من معه من جنود بإضاءة أنوار الكشافات القوية في أعين السكان لحظة إيقاظهم من النوم، وتابع قائلاً: «لما أضأنا كشافاتنا في أعين سكان ذلك المنزل سمعت صراخاً من رجل نائم لم أسمع في حياتي مثله، كان صراخ شخص مرعوب حقاً»!.
وروى أحد الجنود إحدى تجاربه فقال: «بعدما قمنا مرات متتالية بمداهمة مساكن بريئة خطأ، صرنا نتندر بما سيواجهنا فنقول عند أية مداهمة جديدة: الآن ندخل البيت الخطأ، كما يحدث دائماً، ثم بعد ذلك نقول: أوه وجدنا أسلحة الدمار الشامل! كانت مخبأة هنا »!.
وثّقت المجلة بالصور عدداً من فظائع جرائم قتل المدنيين الأبرياء شملت قتل الأطفال من غير سبب إذ نقلت المجلة عن أحد الجنود قوله: « كنت أستطيع قتل أي شخص لا تعجبني نظرته، بدعوى انه كان يهدد أمني»، وأكد جندي آخر عدم اكتراث الجنود الامريكيين بأرواح العراقيين بقوله: «المفهوم العام عندنا ان قتيلاً عراقياً ليس سوى مجرد قتيل»! وروى أحد الجنود ان زميلاً له «نبش دماغ أحد القتلى بملعقة بعد ان أطلق الرصاص على رأسه، وهو ينظر الى الكاميرا ويبتسم»! ولم يخجل جندي آخر من العنصرية البغيضة التي تتضح من كلامه إذ قال: «كنا نظن ان هؤلاء أصحاب البشرة الداكنة الذين لا يتحدثون الانكليزية ليسوا بشراً، وان من المباح لنا ان نفعل بهم ما نشاء».
وقال أحد الجنود في اعترافاته: «شعرت أني فقدت تعاطفي مع البشر، وان كل ما يهمني هو المحافظة على حياتي وحياة رفاقي، أما هؤلاء العراقيون فعليهم اللعنة».
أكد عدة شهود في اعترافاتهم ان الانتهاكات ليست مجرد تجاوزات شخصية، وانما نمط معتاد لسلوك الجيش الامريكي في تعامله مع العراقيين، وروت اعترافات جنود انه نظراً لكثرة حوادث قتل المدنيين العراقيين، ومن أجل تجنب المساءلة القانونية، كثيراً ما يتم وضع أسلحة الى جانب جثث القتلى المدنيين لإظهارهم بمظهر «ارهابيين»، والزعم أنهم كانوا يزرعون قنابل على حافة الطريق، واعترف جندي آخر ان أكثر حالات قتل المدنيين العراقيين من الجنود الامريكيين لا يخضعون لأي تحقيق.
تستحق هذه الاعترافات ترجمتها ونشرها كاملة في الوطن العربي وخارجه، والتركيز عليها في جميع وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، لفضح الزيف الامريكي الذي ما زال على رغم كل جرائمه، يكيل الاتهامات للعرب والمسلمين.
لا عذر لنا في التهاون بواجب سعي جاد لاتخاذ إجراء قانوني دولي ضد الولايات المتحدة لوقف استهتارها بالقوانين الدولية، لكن المؤسف في هذا، انه وعلى رغم كل الفظاعات التي ترتكبها ادارة بوش في العراق، وعلى رغم دعمها لاسرائيل لارتكاب كل جرائمها القانونية الدولية وتوفير الحماية والحصانة لها، نجد في وطننا العربي من تخدعهم ادعاءات ادارة بوش في ضغوطها لتطبيق القوانين الدولية، كممارستها الابتزاز بدفع شبكات صهيونية لمحاكمة متهمين في (جرائم) دارفور!.
لقد بدد العرب بخفة فرصة اقتصاص المحاكم الدولية المختصة قانونياً من الاحتلال الامريكي والادارة الامريكية بعد خروج فضيحة سجن أبي غريب الى العلن، قبل ذلك أثيرت ضجة حول اعترافات الجنرال الامريكي ماكافوري نشرتها مجلة نيويوركر new yorker وعدة صحف امريكية، معززة باعترافات شهود من ضباط امريكيين كانوا معه لدى تقدم قواته براً في الارض العراقية، بأنه قد أمر قواته لدى توغلها في الارض العراقية في نهاية حرب عام 1991 بإبادة تسعة آلاف جندي عراقي أسير عقب استسلامهم لقواته وإلقائهم أسلحتهم ورفعهم رايات بيضاء، حيث طلب آنذاك من دبابات قواته وجرافاتها التقدم الى خنادق واستحكامات الجنود العراقيين المستسلمين لدفن الأسرى العراقيين تحت ركامها، برر ماكافري ارتكابه جريمة الإبادة الجماعية هذه التي انتهكت أحكام اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى في الحرب بأنه كان سوف يقتلهم على أي حال لكيلا يقاتلوا ضد القوات الامريكية في يوم من الأيام، وانه وجد التخلص منهم جماعياً بهذه الطريقة أفضل من قتلهم بالأسلحة الفردية، ليضمن ألا يغير أحد الاسرى العراقيين رأيه فيتصدى لجندي من جنود ماكافري أثناء قيامهم بجمع الاسرى وتطهير الموقع!.
طوقت الادارة الامريكية ما أثارته تلك الاعترافات وأخمدته، فلم يتعرض ماكافري لمساءلة جدية عقب اعترافاته، بل تمت ترقيته الى رتبة أعلى بعد طي القضية سريعاً، ثم جرى التعامل معه لاحقاً باعتباره خبيراً بأمور الحرب في العراق، تستدعيه لجان الكونغرس وسواها لتستمع الى رؤيته ونصائحه، وإذا كان التصرف هذا ينسجم نفاق المهيمنين على رسم السياسات واتخاذ القرارات في الولايات المتحدة، فما هي ذريعة الضحايا، و«ولاة الأمر»، للإيغال في التهاون إزاء اعترافات صريحة وقحة لغزاة صهاينة وامريكيين وسواهم من مرتكبي مجازر جماعية ضد أبناء أمتنا؟.
أما آن الأوان للكف عن التقصير العربي الذي يبدد فرصة بعد أخرى للدفاع عن حقوقه، فنبدأ بموقف عملي جاد تجاه فضيحة اعترافات العسكريين الامريكيين الأخيرة، عبر مقاضاة الغزوة والغزاة دولياً على جميع جرائمهم التي تتفاقم، وهم الذين ليس لديهم حياء يردعهم عن اتهام أمتنا بالارهاب والفاشية والتخلف واتهام ديننا بتشجيع العنف!.
هل من أمل باستجابة عربية رسمية أو أهلية، نقابية أو حقوقية أو ثقافية أو أكاديمية، أو حتى مجموعة أفراد، بل أنعم الله عليه بقدرة مالية ونخوة، للتصرف بمنطق العصر، لجوءاً الى محكمة دولية تقتص من الغزاة وتعاقبهم على جرائمهم؟.
هل من أمل في ان يفعل بعضنا هذا دفاعاً عن حياتنا بحرية في أوطاننا، دفاعا عن الروح والذاكرة الجمعية والهوية ومصير الأمة، دفاعاً عن حق الحياة الذي يمتهنه الغزاة؟ فلنتصرف إزاء حقنا الساطع المنتهك المستباح كما يفعل عدونا الصهيوني، الذي يستنفر العالم ضجيجاً واحتشاداً لدعم باطله باسم التحضر والشرعية الزائفة!.